من رعية إلى مواطن: نصوص حول الديمقراطية والمشاركة المحلية

١٧ الدولة والدين

تؤثر العلاقة بين الدولة والدين بشدة على المجتمع، حيث يتأثر هامش الحريات المتاحة للمواطن بشكل حاسم، فيما إذا كان يعيش في نظام حكم ديمقراطي علماني أم في نظام حكم ثيوقراطي (حكم ديني). ويسود مفهوم خاطئ في الكثير من الدول خصوصاَ الإسلامية منها وبين المسلمين في كافة أنحاء العالم بأن العلمانية تعني الإلحاد، الذي يُسوّى بدوره بانعدام المبادئ الأخلاقية. وبنفس الوقت ينظر على نحو خاطئ إلى نظام بشار الأسد وغيره من الأنظمة القمعية الكثيرة على أنها علمانية. ولكن ماهو مفهوم العلمانية؟

الشرق الأوسط: إسلام سياسي ورقابة حكومية

يرى ممثلو الإسلام السياسي كالأخوان المسلمين في مصر، بوجوب صياغة الدستور والتشريع وتسيير الحياة اليومية تبعاً لقوانين الشريعة فالإسلام والدولة يشكلان بنظرهم وحدة لاتتجزأ.

بينما يختلف الحال في المجتمع العلماني الديمقراطي، حيث يتم فصل الدين عن الدولة. وبالرغم من أن الديانة السائدة في الدولة تصبغ التشريع دائماً، لأن معظم أفراد الشعب و النواب البرلمانين، الذين يبتّون في القوانين هم متأثرون بالطبع بهذه التقاليد الدينية. إلاّ أن البرلمان – أو في حال المنازعة المحكمة الدستورية العليا – في النهاية هو من يقرّ قانوناً ما وليس المؤسسات الدينية. كذلك لا يمكن إتخاذ المعايير الدينية بحذافيرها كقوانين، و خاصة عندما تتناقض مع القيم الأساسية للديمقراطية مثل المساوة بين المواطنين. ويختلف الأمر في الدستور السوري حيث توصف الشريعة على أنها المصدر الأساسي للقضاء وهي تحكم القانون المدني. مما أدى إلى وضع المرأة في القانون الخاص بالعائلة والميراث (الأحوال الشخصية) في مرتبة أدنى من الرجل، وكذلك يختلف قانون الأحوال الشخصية الساري على المسيحين عن ذلك الخاص بالمسلمين، ومازال يشترط أن يكون دين رئيس الدولة السورية الإسلام. فعدم معاملة المواطنين على أنهم متساوون أمرُ واضحُ هنا. علاوة على هذا ينحصر التسامح الديني – إن وجد – بالديانتين المسيحية واليهودية، أي بديانات أهل الكتاب التي يعترف بها القرأن.

وبالتوازي مع أولوية الإنتماء الديني يُلاحظ – ليس في سوريا البعثية وحسب – وجود اتجاه آخر يتمثل في تحكم الدولة برجال الدين. هذا وقد حدث في العالم الإسلامي أيضاً صراع سلطة – وإن لم يكن ذلك بحدة الصراع الذي حدث في أوروبا في القرنين الثامن والتاسع عشر – مابين الدول القومية الناشئة ومطالبها بالشرعية والسيادة و بين السلطات الدينية، التي حاولت جاهدة الإحتفاظ بتأثيرها التقليدي. وقد حاول الحاكم المصري محمد علي في منتصف القرن التاسع عشر في إطار سياسة التحديث والإصلاح التي انتهجها أن يجرد هذه السلطات من نفوذها. فقد وضع المؤسسات الدينية، وعلى وجه الخصوص جامعة الأزهر ذات النفوذ القوي، تحت سيطرة الدولة. و خلال السنين اللاحقة عارض الزعماء الدينيون مشاريع كهذه في كل مرة حصل فيها إصلاح مفروض من السلطات العليا. وقد تشابهت ردات فعل هذه السلطات، بغض النظر عما إذا كان ذلك قد حدث في تركيا خلال حكم أتاتورك أو في سوريا والعراق البعثيين أو في تونس مابعد الإستعمار: فقد تم تأميم المؤسسات الدينية، وإدراج فقهاء الدين في قوائم رواتب وزارت الشؤؤن الدينية المحدثة آنذاك ووضعهم تحت رقابة حكومية مشددة. ومن عارض ذلك – وهي على وجه الخصوص الأحزاب والحركات الإسلامية الناشئة – أصبح هدفاً للملاحقة الحكومية. وغالباً ما لا يطالب النشطاء السياسين في الشرق الأوسط، الذين يصفون أنفسهم بالعلمانين، بالفصل بين الدولة والدين بل برقابة حكومية (أشد) على الأخير.

النماذج العلمانية: فرنسا، ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية

كان الهدف المعلن للقانون الفرنسي الذي نص على فصل الدين عن الدولة في عام 1905م هو إضعاف تأثير الدين (في هذه الحالة الكنيسة الكاثوليكية). فخلافاَ لفرض الإلحاد من قبل الدولة كما حدث في الإتحاد السوفيتي السابق مثلاً، لم يُرفض الدين أو يلاحق المتدينين في فرنسا، بل اعتُبر التدين شأناً خاصاً. ومن هذا المنطلق لاتُقدّم أية محاضرات دينية في المدارس الحكومية الفرنسية. وتمّ منع المعلمين والطلبة منذ عام 2005م من اظهار الرموز الدينية، حيث يسري هذا المنع على إرتداء الصليب المسيحي وارتداء الحجاب أو قلنسوة الكيبا على حد سواءَ. الغاية من ذلك هو منع التأثير أو التعرض للضغط دينياَ على أي شخص بعكس إرادته في المؤسسات الحكومية أو من خلالها. وفي الوقت ذاته للمؤسسات الكنسية والدينية الأُخرى حرية تمثيل مواقفها (السياسية)، التي تعارض مواقف الحكومة. حيث تلتزم المؤسسات الدينية أيضاً بتطبيق القوانين النافذه فقط.

ويسري مبدأ حيادية الهيئات الحكومية وحرية المؤسسات الدينية بصياغة المواقف السياسية الخاصّة بها على جمهورية ألمانيا الإتّحادية أيضاً. ولكن هنا لايعتبر الفصل بين الدولة والكنيسة – خلافاً لفرنسا – هدفاً معلناً للدولة. حيث أن الأولوية لإتاحة الحرية الدينية الشخصية، فيسمح الدستور لجميع المؤسسات الدينية، المستوفية لشروط قانونية وتنظيمية معينة، بتقديم دروس دينية، ليس فقط في المدارس الدينية وإنما أيضاً في المدارس الحكومية. ووفقاً لمبدأ حرية الدين، لايسمح للدولة بالتدخل في معتقدات المجموعات الدينية. في الوقت نفسه يخضع معلمو الديانة و الدروس التي يقدموها إلى الرقابة المدرسية الحكومية العامة. وعلى خلاف فرنسا لايمنع ارتداء الرموز الدينية من قبل التلاميذ والتلميذات. ولذلك تستطيع الفتيات إرتداء الحجاب في المدرسة أيضاً، بينما تُمنع المعلّمات من إرتدائه في العديد من الولايات الألمانية بمقتضى القوانين المعنية للولايات. ويدور منذ أعوام نقاش حول ما إذا كان هذا الحظر يقيد الحرية الدينية الشخصية و يعتبر اضطهاداً للمسلمات على أساس إعتقادهن الديني أو أنه إجراء ضروري، للحفاظ على حيادية الدولة، الممثلة هنا بالمعلّمات كموظفات حكوميات.

يخشى الكثيرون من المسلمين أن يقود الفصل بين الدولة والدين بشكل مؤكد إلى نشوء مجتمع بعيد عن الدين.إلّا أن مثال الولايات المتحدة الأمريكية يظهر بأن ذلك ليس بالحالة الحتمية إطلاقاً. فبينما تواجه الكنائس المسيحية الكبرى في أوروبا الغربية على سبيل المثال عدداً متزايداً من الإنسحابات من الكنيسة، تلعب الديانة في الحياة اليومية للكثير من الأمريكيين وفقاً للتقاليد دوراً كبيراً. حيث هرب الكثيرون من المستوطنين الأوائل من بلادهم الأوروبية، لأنهم كانوا ملاحقين فيها بسبب معتقادتهم الدينية. و توجب منع تكرار ذلك. وعليه ينبغي إتاحة الإمكانية لممارسة الديانة الخاصة دون تدخل الدولة تحت أي ظرف كان، وفق ماهو منصوص عليه في التعديل الأول لدستور الولايات المتحدة في عام 1789م. ويجب على الدولة عدم التدخل في الدين نهائياَ ولا يسمح بوجود أي كنيسة موجهة من قبل الدولة. ويختلف الحال هنا عن ماهو عليه في أوروبا، حيث تتأسس بصفة دورية كنائس جديدة – غالباً نتيجة الانفصال عن كنائس موجودة من قبل – تتعايش بصورة عامة بسلام، و يعتبر تغيير الكنيسة في الولايات المتحدة الأمريكية أمراً عادياً جداً.

كذلك يعد رفض المسيحيين المؤمنين لقوانين حكومية – مثل الحق في الإجهاض – أمراً عادياً، ليس فقط في الولايات المتحدة الأمريكية وإنما في دول علمانية أُخرى أيضاً، حيث يمكنهم محاولة إقناع أصحاب القرار السياسي بموقفهم، كما يحق لهم أن يتحركوا بشكل علني وينظموا الإحتجاجات ضد قوانين كهذه، ولكن من غير المسموح لهم فرض تغيير القوانين إستناداً إلى معتقدهم الديني.

إن اعتبار كافة المواطنين، بغض النظر عن جنسهم وعرقهم ومعتقدهم الديني وتوجهم الجنسي سواسية أمام القانون، هو أساس كل مجتمع ديمقراطي وشرط لحصول جميع المواطنين على فرص متساوية بالمشاركة المجتمعية. وكما أن حق الفرد بالحرية الدينية جوهري، فإن ذلك ينطبق على حقه بعدم الإيمان. كيف يمكن لهذه المبادئ – ليس على الصعيد الفردي فحسب وإنما على مستوى المؤسسات الحكومية أيضاً – أن تنسجم مع الإسلام. هذا هو واحد من الأسئلة الحاسمة، التي يتوجب على المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة أن تجد لها في المستقبل جواباً.

تنزيل


??? كيلوبايت PDF