من رعية إلى مواطن: نصوص حول الديمقراطية والمشاركة المحلية

٩ الإدارة الذاتية المحلية

يقضى المواطن الفرد معظم أيام حياته في مجتمعه المحلي، أي في القرية أو في حي المدينة، وهنا كثيراً ما تتضارب المصالح بين المواطنين الأفراد أو بين مجموعات منهم. هل يتعلم الأطفال في المدرسة الكتابة والقراءة بلغتهم الأم؟ أين تُنشأ الشوارع الحيوية التي تكثر فيها الحركة المرورية؟ أين تقام نقطة تفتيش؟ هل هناك مركز قريب لأنشطة الشباب؟ هل يعالج مكتب الأحوال الشخصية طلبات المواطنين سريعاً أم يتأخر في إنجازها؟ مثل هذه المسائل تطبع الحياة اليومية للفرد، لذلك في الدول التي لديها مجتمع مدني حيوي لا تقتصر المساهمة في الإدارة المحلية على بعض المواطنين، وإنما تنشط أغلب الجمعيات والمبادرات الأهلية على المستوى المحلي قبل غيره، فهنا يعرف الفرد الأوضاع جيداً، وهنا تتجلى نتائج العمل السياسي. تتميز الإدارة الذاتية على المستوى المحلي بقدرتها على إشراك المواطنين في اتخاذ القرارات السياسية والاستفادة من خبراتهم لحل المشاكل المحلية. يتيح النشاط ضمن البلديات إمكانية التدرب على الممارسات الديمقراطية وتنمية الكفاءات السياسية، بالإضافة إلى تعلم التعاون والمشاركة في عمليات اتخاذ القرارات.

ولكن لا يمكن ذلك إلا إذا كانت لدى البلديات صلاحيات فعلية لاتخاذ القرارات. فمن ناحية تعتبر البلدية المكان الذي يتم فيه تطبيق القوانين والقرارات الوطنية، أي الجهة المنفّذة، وفي نفس الوقت تستطيع البلديات في كثير من الدول أن تقرر شؤونها بنفسها وتملك ميزانية تستطيع التصرف بها. فعلى سبيل المثال غالباً ما تُعتبر الشؤون الثقافية بأكملها مسألة محلية، حيث تقرر البلدية باستقلالية في شؤون مثل إنشاء مراكز لأنشطة الشباب والمسابح والمسارح. ولتمول أعمال كهذه تفرض البلدية ضرائب خاصة بمنطقتها الإدارية أو تحصل من الحكومة المركزية على نسبة من الضرائب التي تُجبى على المستوى الوطني.

يجب ألا يُسمح بزيادة نفوذ أي مجموعة من مجموعات المصالح الممثلة على المستوى المحلي، وذلك لتوفير إمكانية اتخاذ القرارات الديمقراطية على هذا المستوى. فمحلياً حيث يكون التأثير المبادرات الأهلية والعائلة والعشيرة أكبر مما هو عليه على المستوى الوطني، يعد الفصل الفعال بين السلطات لمنع الفساد والمحسوبيات بالغ الأهمية. ومن المفترض أن يكون مجلس البلدية المنتخب والذي يضم ممثلين عن مختلف الأحزاب السياسية المخول الرئيسي باتخاذ القرارات. كما أنه من المهم أن يقرر برلمان البلدية في شؤون ميزانية البلدية وأن يعتمد أكبر درجة ممكنة لشفافية الإنفاقات. ما عدا ذلك يكون لرئيس البلدية عادةً صلاحيات قرار خاصة ومستقلة عن برلمان البلدية. ولكي يمثل رئيس البلدية مصالح المنطقة يجب أن يُنتخب من داخل البلدية، إما من قبل المجلس المحلي أو من المواطنين مباشرةً. لا يجوز في أي حال من الأحوال أن يعيَّن رئيس البلدية من قبل سلطة أعلى، كالمحافظ مثلاً، لأنه في هذه الحال سيكون مسؤولاً أمام الأخير فقط. وأخيراً، تتاح في البلدية إمكانيات كثيرة لإشراك جميع المواطنين في عمليات اتخاذ القرار عن طريق أشكال مختلفة للديمقراطية المباشرة والتشاركية. معنى الديمقراطية المباشرة أن يتخذ المواطنون بأنفسهم القرار في قضايا معينة، بدلاً من ترك الأمر للنواب المنتخبين فقط، كما هو الحال في الديمقراطية التمثيلية. أما الديمقراطية التشاركية فالمقصود منها أن تتحاور البلدية مع المواطنين والاتحادات والجمعيات لإيجاد حلول لمسائل سياسية معينة. مستوى البلديات هو المستوى الذي يمكن فيه استخدام مثل هذه الآليات الديمقراطية بسهولة نسبياً، ذلك أن القضايا المحلية غير معقدة نسبياً وبالتالي يتمكن المواطن من استيعابها والبت فيها. سنقدم في الآتي أشكال مختلفة للديمقراطية المباشرة والتشاركية.

الطلب الشعبي والاستفتاء الشعبي

الطلب الشعبي والاستفتاء الشعبي هما وسيلتان للديمقراطية المباشرة. يستطيع سكان بلدية أو مدينة أو سكان حي ما أن يتقدموا بطلب لإجراء استفتاء شعبي حول قضية محلية معينة. ويُدعى الطلب الذي يجب أن توقع عليه نسبة محددة من ناخبي المنطقة طلباً شعبياً. إذا تحققت شروط نجاح الطلب الشعبي، يُجرى في الخطوة اللاحقة الاستفتاء الشعبي. يتطلب الاستفتاء الشعبي هو الآخر مشاركة نسبة معينة من الناخبين في التصويت وخلال فترة محددة.

يقوم المواطنون في الطلب الشعبي والاستفتاء الشعبي اللاحق بصياغة اقتراح سياسي يخصهم أو يطالبون بتغيير قرار سياسي اُتخذ مؤخراً. إذا توفر الحد الأدنى من أصوات الناخبين في الاستفتاء الشعبي، تعتبر نتيجته ملزمة لإدارة البلدية.

إذا قررت بلدية ما اعتماد عملية الطلب الشعبي والاستفتاء الشعبي، عليها قبل ذلك توضيح بعض الأمور الأساسية. فلا بد من تحديد القضايا التي يجوز أو لا يجوز طرحها في الطلبات والاستفتاءات الشعبية. فمن المتعارف عليه مثلاً عدم إمكانية إسقاط الميزانية الكاملة للبلدية من خلال طلب شعبي. ما عدا ذلك يجب تحديد الحد الأدنى لعدد الناخبين الذين يؤيدون الطلب أو يصوتون في الاستفتاء الشعبي حتى يعتبر نافذاً. عادةً ما تكون التعبئة من أجل المشاركة أسهل في القرى والمدن الصغيرة منها في المدن الكبيرة، ولا بد من مراعاة ذلك عند تحديد النسب الدنيا. كما يجب تحديد الفترات التي يمكن خلالها جمع عدد الأصوات المطلوب.

كما يجب البت في ما إذا كان على المبادرين لاستفتاء شعبي أن يشرحوا كيف سيتم تمويل الاقتراح المقدم في طلبهم. إذا كان كذلك، فعلى المواطنين الذين يطالبون بإنشاء نادٍ جديد للشباب مثلاً أن يقدموا مع طلبهم خطة لتمويل بناء النادي وتسييره. إلا أن أصحاب المبادرات الأهلية غالباً ما ليسوا مطلعين على ميزانية بلديتهم بما يكفي لتقديم اقتراحات ملموسة للتمويل. لذلك قد يكون من الأفضل عدم وضع عقبات كثيرة والاكتفاء بواجب ذكر التكاليف المتوقعة للمشروع المطلوب في الاستفتاء الشعبي.

كما يجب مقارنة أسماء المشاركين في الطلب أو الاستفتاء الشعبي مع قوائم أسماء الناخبين دائماً، للتأكد من أن المشاركين هم من سكان المنطقة ولا يعيشون في مدينة أخرى مثلاً.

استطلاع رأي المواطنين، الوساطة، برلمان الأحداث

تتطلب الممارسات التشاركية الديمقراطية من المواطنين إما المشاركة في موضوع معين أو لفترة زمنية محددة أو بشكل دائم. ويعد استطلاع رأي المواطنين مثالاً على المشاركة المحددة الموضوع، حيث يتم استطلاع رأي المواطنين قبل أن يتم شق طريق سريع للسيارات في قرية أو إقرار التخطيط العمراني في منطقة معينة. هكذا يؤخذ رأي المواطنين في عين الاعتبار عند اتخاذ القرار النهائي، مما يُجنّب حدوث الخلافات منذ البداية.

عمليات الوساطة هي مثال آخر على المشاركة المحددة في موضوع معين. فإذا نشأ خلاف في بلدية ما، سواء كان بين صانعي القرار (رئيس البلدية أو البرلمان المحلي) ومجموعة من المواطنين، أو بين مجموعات مختلفة من المواطنين أنفسهم، قد يجدر إطلاق عملية وساطة بينهم. من المحتمل مثلاً أن كلاً من الجالية المسلمة والكنيسة يرغبان ببناء مركز لأبناء جاليتهم على مساحة تملكها البلدية. عندها يدعى في إطار الوساطة ممثلو البلدية والمسجد والكنيسة إلى الطاولة المستديرة للتوصل إلى حل مشترك للخلاف ويعيَّن وسيط تقبله كل الأطراف لإدارة النقاش وإعداد مقترح كحل وسطي يتم التصويت عليه في نهاية العملية. الأمر المهم في عمليات الوساطة أنها تُستخدم فقط في الخلافات المدنية، ولا يمكن أن تحل محل الملاحقة القانونية في حال ارتكاب الجرائم. فإذا تعرضت امرأة للاغتصاب، لا بد أن يحاكم الجاني، ولا يمكن قبول وساطة يتفق فيها والد الضحية ووالد الجاني على زواج الجاني من الضحية. كما يجب أن تكون عمليات الوساطة مفتوحة. فإذا كان محتوماً منذ البداية أن شيخ العشيرة الذي هو طرف في الخلاف سيتمكن في النهاية من فرض موقفه لأن رئيس البلدية من أبناء عشيرته، لن تكون لتلك الوساطة أية فائدة.

مثال أخير على المشاركة لغاية محددة ما يسمى بمؤتمرات الأحياء السكنية. فلنفترض أن خدمة إزالة النفايات انقطعت في حي من أحياء المدينة بسبب توقف الأجهزة العامة المكلفة عن العمل بعد اشتباكات مسلحة وتحطّم سيارات رفع القمامة. قد يكون من المفيد أن يدعو ممثلو البلدية السكان وأصحاب المتاجر الى مؤتمر للحي لصياغة أفكار مشتركة عن إمكانية إقامة خدمة بديلة بمساعدة الأهالي.

أما برلمانات الأحداث فتُعدّ مثالاً للمشاركة الدائمة في ممارسات الديمقراطية التشاركية. ينتخب أطفال وشبان البلديات هذه البرلمانات، وهي تعنى بجميع المسائل التي تخص فئة عمرهم وذات شأن محلي. فإذا قررت البلدية تمويل نادٍ أو محطة إذاعية للشباب، يستطيع برلمان الأحداث أن يبدي موقفه من ذلك وأن يشارك في تصميم المشروع. الى جانب تقديم الاستشارة للسياسيين المحليين غالباً ما تملك هذه البرلمانات ميزانية خاصة بها تستطيع أن تقرر بنفسها كيفية التصرف بها. فبإمكانها أن تمول بعض المشاريع المختارة، مثل توزيع الألعاب على أطفال اللاجئين الساكنين في الحي مثلاً.

ولا تقتصر المشاركة في اتخاذ القرارات المحلية على الشباب فقط، بل يحق للمسنين أو المعاقين المشاركة أيضاً كمجموعة ذات احتياجات خاصة. وإلى جانب البرلمانات المنتخبة مباشرةً هناك إمكانية أن توفد الجمعيات التي تضم مواطنين من فئات مجتمعية معينة بعض أعضائها الى مجالس خاصة بهم (مجلس المسنين، مجلس المعاقين وغير ذلك) في البلدية. تستطيع مجموعات المصالح المختلفة أن تقرر بنفسها شكل تمثيلها. ولكن عموماً تعتبر مشاركة المواطنين عبر انتخاب برلمان البلدية أوسع وأهم من انتخاب المجالس من قبل الجمعيات.

المشاركة والفعالية

يتنافس مع فكرة المشاركة الديمقراطية مبدأ الفعالية، ولا يقتصر هذا الأمر على البلديات. فنقل صلاحيات القرار الى المستوى المحلي لا يجب أن يؤدي إلى إهمال القضايا العابرة لحدود البلدية. فلا يُعقل من وجهة نظر سكان بلدية ما أن ينتهي نظام المواصلات العامة على حدود مدينتهم مثلاً، لأن مجلس كل بلدية يصر على التعامل مع شركة حافلات محلية معينة. ولو أعطيت البلديات صلاحية القرار في بناء الطرق السريعة أيضاً، فأغلب الظن أن بناءها لن يتم أساساً. فصحيح أن جميع البلديات ترغب بالانتفاع من وجود شبكة مواصلات جيدة تربطها مع قرى ومدن مجاورة، لكن على الأرحج لا ترغب أي بلدية بتحمل ضجيج مرور الطرقات التي تمر بها. إذن، هناك مسائل تصلح أكثر من غيرها لتُقرَّر في البلدية، ولا بد من المقارنة الدقيقة بين النتائج المحتملة من أجل التوصل إلى أكبر قدر ممكن من المشاركة في القرار والفعالية على حد سواء.

تنزيل

٩٥٤ بايت PDF