من رعية إلى مواطن: نصوص حول الديمقراطية والمشاركة المحلية

٣ التعاونيات

التعاونية هي مجموعة من أشخاص يتحدون طوعياً من أجل العمل الاقتصادي المشترك. يضمن دخولهم السوق كجماعة وليس كأفراد الحصول على شروط مناسبة للبيع والشراء، والقيام بمهام معينة بطريقة أكثر كفاءةً وبجودة أفضل. الهدف من ذلك هو دعم المصالح الاقتصادية لجميع الأعضاء بالاعتماد على الجهود الذاتية، وليس بمساعدة أطراف ثالثة أو بدعم من الدولة. من المناسب إذن تأسيس تعاونية عندما يفوق تحقيق هدف اقتصادي معين إمكانيات الفرد، ويريد هذا الفرد الحفاظ على استقلاليته في نفس الوقت. من أهم محاور العمل التعاوني التمكين الذاتي والتنظيم الذاتي والمسؤولية الذاتية والتضامن.

الزراعة، الإسكان، الاستهلاك

تعد الزراعة أحد المجالات الرئيسية التي تنشط فيها التعاونيات. وتعتبر التعاونيات الزراعية البديل المناسب للفلاحين الذين لا يملكون ما يكفي من الأرض ليعملوا بكفاءة اقتصادية. وهي بديل أيضاً للمزارعين الذين ينقصهم المال ليشتروا أسمدة جيدة وبذوراً ذات انتاجية عالية، أو لاقتناء آلات زراعية غالية وصيانتها. فبدلاً من أن يعملوا كأجراء في أراضي كبار الملاك وأن يدفعوا لهم نسباً عالية من إنتاجهم وأن يعملوا تحت رحمتهم، بإمكانهم أن يتحدوا لتأسيس تعاونية وأن يقوموا بالاستثمارات الضرورية معاً. هكذا يمكنهم إنتاج وتسويق بضائعهم بشكل مشترك. وبدلاً من أن ينافسوا بعضهم بعضاً لدى بيع منتجاتهم وأن يتركوا التجار الوسطاء يدفعونهم للعمل ضد بعضهم البعض، يمكنهم التوجه لتجار الجملة متحدين وتحقيق أسعار بيع عادلة. ومن فوائد التعاونيات الزراعية أيضاً أن مورد رزق الفرد الواحد من أعضائها لا ينقطع إذا كان حصاده قد تلف من جراء سوء الأحوال الجوية مثلاً، بل تدعمه التعاونية. ولا ينحصر تأسيس التعاونيات على الفلاحين فقط، بل يمكن ذلك للحرفيين ولأصحاب المهن الأخرى أيضاً، بل يمكن لعمال مصانع بأكملها أن يجتمعوا أو أن يتملكوا مصنعهم ويديروه.

كذلك يعد نظام التعاونيات السكنية شائعاً هو الآخر. حيث يؤسسها أشخاص لا يملكون من رأس المال ما يكفي لشراء شقة أو بيت في السوق الحرة، أو لدفع إيجار سكن مرتفع. يدفع جميع أعضاء التعاونية مبالغ وفقاً لإمكانياتهم في صندوق التعاونية، ويُستخدم رأس المال هذا لبناء أو شراء المساكن. يحصل الأعضاء على حصص من رأس مال التعاونية وفقاً لما دفعوه من أموال، ويشاركون في أرباح التعاونية على نفس الأساس. علاوة على ذلك يمكنهم استئجار شقق أو بيوت التعاونية بشروط ميسرة. كما توجد نماذج أخرى للتعاونيات، حيث يساهم أعضاؤها بالعمل إضافةً إلى رأس المال أو عوضاً عنه. أعضاء التعاونية هم ملاك المسكن وقاطنوه في آن واحد. لذلك فوائد عديدة، فإذا كانت الشقة لم تعد تناسب احتياجات عائلة ما بسبب ازدياد عدد أطفالها واحتاجت إلى مساحة سكنية أكبر، يمكنهم استبدال الشقة بأخرى من شقق التعاونية الفارغة. ولا تقتصر الميزات التي يستفيد منها أعضاء الجمعيات السكنية على تكاليف السكن المنخفضة، وإنما يتمتعون بسكن آمن أيضاً، فهم شركاء في الملكية، مما يعطيهم حق السكن مدى حياتهم، ولا يستطيع مالك شقة أن ينهي عقدهم السكني كمستأجرين ليؤجر الشقة لغيرهم مقابل ثمن إيجار أعلى.

مثال آخر على تشكّل تعاونية هو التعاونية الاستهلاكية. يمكن لأشخاص أن يتحدوا لتأسيس مثل هذه التعاونية ليشتروا، على سبيل المثال، مأكولات لأنفسهم بأسعار مناسبة. فعندما يشترون كميات كبيرة من الفواكه أو الخضار أو اللحوم، تزداد أهميتهم كزبائن بالنسبة للبائع، فيمنحهم أسعاراً أفضل، ويستفيد من ذلك جميع الأعضاء. وإذا كانت مواد غذائية معينة أو سلع هامة أخرى مثل الزيت أو الوقود متوفرة في أماكن بعيدة فقط، يمكن تقليل جهود الفرد للحصول عليها عن طريق تأسيس تعاونية أيضاً. وفي أوضاع تتسم بنقص المواد الغذائية وزيادة أسعارها، ويرافق ذلك تضخم مالي، من شأن مثل هذه التعاونيات الشرائية أن تمنع حدوث المجاعات.

مزارعون
تاجر جملة
تعاونية
تاجر جملة

المشاركة في الأرباح بمخاطر محدودة

هدف التعاونيات هو الدعم الاقتصادي لأعضائها، مع التركيز على تحقيق غرض التعاونية (سكن جيد بسعر مناسب، زراعة مجدية، أو شراء مواد غذائية رخيصة الثمن لجميع الأعضاء)، وليس تحقيق أرباح كبيرة. ولكن هذا لا يعني أن التعاونيات لا تحقق أية أرباح، فعلى التعاونية أيضاً أن تعمل بكفاءة من أجل الصمود أمام منافسة السوق، ولكي تستطيع دعم أعضائها على المدى الطويل. الأمر المهم هو أن توزع التعاونية أرباحها على أعضائها. في بعض البلدان، منها ألمانيا، يمكن صياغة النظام الأساسي للتعاونيات بحيث لا يخسر أعضاء التعاونية في حال إفلاسها إلا بقدر مساهمتهم في رأس مال التعاونية (مال، وسائل إنتاج، أملاك)، أما أملاكهم الشخصية فتبقى محمية ولا يمكن استخدامها لسد استحقاقات أصحاب الديون.

المساواة في اتخاذ القرار

يتكون مجلس إدارة وهيئة رقابة التعاونية من أشخاص هم بدورهم أعضاء فيها. تسيّر الإدارة أعمال التعاونية وتمثلها في الداخل والخارج. في حال كانت التعاونية كبيرة، تقوم هيئة رقابة بمراقبة عمل الإدارة. يتم اتخاذ جميع القرارات الهامة في الجمعية العامة لأعضاء التعاونية، فهي تعتبر أعلى هيئة للتعاونية وتقرر في جميع مسائلها الهامة. من مهامها انتخاب مجلس الإدارة، والموافقة على كل الشؤون المالية، وتبرئة ذمة أعضاء الإدارة، وتعديل النظام الأساسي. مما يميز فكرة التعاونية أن لكل عضو صوتاً في الجمعية العامة، بغض النظر عن مقدار مساهمته في رأسمال التعاونية. هدف ذلك هو حماية التعاونية من هيمنة من دفع رأسمالاً أو أملاكاً أو وسائل إنتاج أكثر من غيره. ولا يمكن لأحد أن «يشتري» التعاونية، فهي «مُلك» لجميع أعضائها، حتى لو استفادوا منها اقتصادياً بدرجات متفاوتة، وفقاً لحصصهم في رأسمالها. تُتخذ جميع القرارات في التعاونية بشكل ديمقراطي وعلى أساس المساواة.

التعاونيات في التاريخ واليوم

يُجدي تأسيس التعاونيات، كما اتضح من الأمثلة المذكورة، في وقت الأزمات خصوصاً، فمن شأن التعاونيات أن تقوّي شرائح المجتمع المستضعفة. وقد نشأت أولى التعاونيات الحديثة في أوروبا وليدة الضيق، فقد أدى الإنتاج الصناعي على نطاق واسع إلى عدم قدرة الحرفيين الصغار على المنافسة وفقرهم. كما نتجت عن توافد عمال غير مؤهلين من الأرياف إلى المدن شروط عمل غير إنسانية وأجور منخفضة، بالإضافة إلى أزمة سكنية. ومن أجل حل ما سمي آنذاك بـ«القضية الاجتماعية» كان لا بد من قيام أفكار جديدة، منها تأسيس تعاونيات متنوعة التوجه، إلى جانب التحاق العمال بالنقابات وتأسيس أحزاب سياسية. إلا أن بدايات العمل التعاوني في الأرياف تعود إلى ما قبل ذلك بكثير، فحتى الحياة البدوية القديمة في الشرق الأوسط كانت تقوم على أساس التعاون الجماعي.

أما اليوم، فالتعاونيات الحديثة ليست منتشرة في أوروبا فقط، بل بشكل خاص أيضاً في دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية. وفي العالم العربي، ومنه سوريا، هناك ما يسمى «تعاونيات» أيضاً، لكنها لا تشبه النموذج المذكور آنفاً إلا قليلاً، لأنها غير مستقلة، بل هي مؤسسات شبه حكومية وتتحكم بها الدولة، وهي جزء من نظام المراقبة للدولة.

تنزيل


٣٥١ كيلوبايت PDF