من رعية إلى مواطن: نصوص حول الديمقراطية والمشاركة المحلية

المشاركة على المستوى المحلي
كبداية المسار الديمقراطي

افترض أنك تعيش في بلد ديمقراطي، تنتخب فيه ممثلاً للبرلمان مرة واحدة كل أربع أو خمس سنوات، وتزودك وسائل الإعلام ببعض المعلومات حول ما يقوم به البرلمان والحكومة، مما يمكنك من إتخاذ قرار فيما إذا كنت ترغب في التصويت لهم في الانتخابات القادمة أو لحزب آخر. في بعض الأحيان تتداول المواضيع السياسية مع الأصدقاء والأسرة ومع الزملاء؛ الآن يمكنك التحدث بحرية وتعبِّر عن رأيك، وهذا أمر عظيم.

لكن هنالك أكثر بكثير من مجرد انتخابات البرلمان الوطني أو الإقليمي فيما يخص الديمقراطية، فماذا عن الأشياء التي تحدث في منطقتك، قريتك، مدينتك، أو في بلدتك، في مدرستك أو في مكان عملك؟ من يتخذ القرارات بشأن بناء وصيانة الطرق، والمنازل، والحدائق والمدارس في منطقتك؟ من الذي يمنح الرخصة لفتح وتشغيل الأعمال التجارية؟ وماذا عن الاستثمار في مجالات البنية التحتية وفرص العمل؟

إن العديد من القرارات الهامة التي تؤثر في حياتنا اليومية لا يتم إتخاذها (ولا ينبغي أن يتم ذلك) من قبل الحكومة الوطنية أو الإقليمية، من قبل البيروقراطية أو البرلمان، وإنما من قبل السلطات المحلية وهيئات التنظيم الذاتي المحلية. تدعم هذه المؤسسات إشراك جميع المواطنين واحتواءهم، حتى المستبعدين منهم من السياسات الوطنية أو الإقليمية. إن وصول النساء إلى المؤسسات الديمقراطية والمنظمات المحلية، على سبيل المثال، وفقاً لنماذج الأدوار النمطية، أسهل من وصولهن إلى المؤسسات الوطنية، لأنها لا تتطلب السفر عبر البلاد للمشاركة في اجتماعات وما إلى ذلك، مما يسّهل عليهن التوفيق بين «واجباتهن» كأمهات وكزوجات وبين التزاماتهن السياسية. كما يمكن للشباب الذين ليسوا سياسيين محترفين أو ليسوا جزءاً من المؤسسة السياسية، أن يشاركوا وينتظموا محلياً وبسهولة أكبر. ويمكن للنساء والشباب أن يصبحوا من خلال المؤسسات المحلية أعضاء فاعلين في مجتمعاتهم وأن يحدثوا تغييراً. وبحكم انتمائهم إلى فئات اجتماعية أقل قوة، فإنهم غالباً ما يُبدون اهتماماً بإصلاحات حقيقية، أكثر من أعضاء المجتمع الأكثر نفوذاً.

وتوجد في بعض البلدان تقاليد راسخة لمؤسسات ديمقراطية محلية ولمشاركات المواطنين في حكم ذاتي محلي. وفي بلدان أخرى تكون هذه المؤسسات المحلية ضعيفة، أو غير موجودة، أو يتم تنظيمها بطرق تمنع تمثيل ومشاركة المواطنين، مما يصعب على الديمقراطية أن تكون فعالة وعلى المواطنين أن يكون لهم ممثلوهم في المدن والبلدات والقرى، وأن يؤثروا في صّناع القرار لإنتهاج سياسات أفضل. كيف الأوضاع في مدينتك، بلدتك، أو في قريتك؟ هل تنتخب رئيس بلديتك؟ هل تتمتع بالمشاركة في أي قرارات يتم إتخاذها حول الحياة، والفضاءات العامة، أو التخطيط في بلديتك؟ هل هناك وسائل إعلام محلية بمقدورها متابعة الأمور التي تتعلق ببلدتك والإبلاغ أو كتابة التقارير عنها؟ وإن كنتَ تلميذاً أو أحد والديّ أطفال المدارس، هل هناك هيئة تتمكن فيها من المشاركة في عملية صنع القرار الخاص لتلك المدرسة؟ هل يتسّنى لك التأثير على ما يدور داخل الحزب السياسي الذي انتخبته للبرلمان؟

الديمقراطية المحلية والمؤسسات الحكومية

إن سلطات قرية أو بلدة أو مدينة أو حيّ ما، هي مؤسسات الحكم المحلي: رئيس البلدية/العمدة، مجلس القرية أو المدينة، وقائد الشرطة في المدينة. للسلطات المحلية هذه وظيفتان أو وجهان: وظيفة «من أعلى إلى أسفل» وأخرى «من أسفل إلى أعلى».

أما وظيفة الـ«أعلى إلى أسفل» فإنها تتجّلى في نظر الحكومة الوطنية أو الإقليمية إلى المؤسسات المحلية، مما يعني أن السلطات المحلية هي المسؤولة عن تنفيذ السياسات والقرارات التي تتخذها الحكومة الوطنية والمحلية وبرلمانهما، فعلى سبيل المثال، إذا إتخذت وزارة التربية والتعليم في العاصمة – أو الوزارة الاتحادية في عاصمة دولة اتحادية – قراراَ بإجراء تغيير في المناهج المدرسية، فإن الوزير والموظفين العاملين في وزارته سوف لن يسافروا عبر البلاد مارّين من مدرسة إلى أخرى لفرض التغيير. بدلا من ذلك، فإن هنالك مؤسسات دون مستوى المحافظات تتحمل مسؤولية تنفيذ السياسات في مناطقها. فمن أجل تجديد رخصة القيادة لا نتجّشم عادة عناء السفر قاطعين طريقاً طويلة للوصول إلى مقر وزارة النقل الوطنية أو الإقليمية، بل نذهب بدلاً من ذلك إلى مكتب محلي. وإذا كانت السلطات المحلية تنفذ أعمالها بشكل جيد، فإن السياسات التي وضعها ممثلون منتخبون ديمقراطياً وعلى المستوى الوطني أو الاقليمي للحكومة تجد طريقها للتنفيذ هناك.

أما وظيفة الـ«أسفل إلى أعلى» من الناحية الأخرى، فتتجلى في نظر المؤسسات المحلية إلى الحكومة الوطنية و/أو المحلية. تعد هذه الوظيفة صميم النظام الديمقراطي، وتحديداً الديمقراطية المحلية. فهنا يمكن للمواطنين العاديين، وليس السياسيين المحترفين فقط، المشاركة والتأثير في القرارات التي لها وقعٌ مهم على حياتهم. ففي بعض الحالات يعرف أهالي المنطقة، أو البلدة، أو القرية بصورة أفضل ما هو الأنفع لمناطقهم: ما هي المرافق العامة التي يحتاجونها، وكيف يتم تنظيم الخدمات … إلخ، ويمكن تمرير هذه المعلومات من خلال المؤسسات المحلية إلى المقاطعات وإلى المؤسسات الوطنية حتى، بحيث تتمكن الأخيرة من النظر فيها بعين الإعتبار عند اتخاذ القرارات السياسية التي تؤثر على البلد أو الإقليم بأكمله. وفي حالات أخرى فإنه من الأسهل أو الأكثر كفاءة أن يتم إتخاذ وتنفيذ القرارات على المستوى المحلي. فلا ضرورة على سبيل المثال لوزارة وطنية كي تقوم بتحديد أماكن بناء حديقة عامة في كل مدينة، وسيستغرق الأمر وقتاً طويلاً جداً قبل أن تكون الوزارة قد إنتهت من رعاية بناء الحدائق العامة في كل مكان، بينما يمكن لمواطني كل مدينة أن يتخذوا قراراتهم وأن ينفذوها بأنفسهم.

إن هياكل ومؤسسات الحكم المحلي موجودة رسمياً في كل بلد تقريباً، لكن أدوارها وسلطاتها تختلف كثيراً باختلاف أماكنها. فبالأخص حيث يوجد تقليد طويل من الحكم الاستبدادي، من المهم إنشاء وتطوير المؤسسات والإجراءات الديمقراطية المحلية، ومن شأن ذلك إرسال نبضات ديمقراطية إلى الجهات العليا. وبغية التحرك نحو الديمقراطية المحلية، حيث لا تتواجد بعد، وبغية تعزيزها حيث تتواجد بشكل ضعيف، يمكننا أن نبدأ ببعض الأسئلة الهامة من قبيل: ما الذي يقوم به أصحاب الدوائر المحلية في الواقع؟ كيف يحصلون على مناصبهم – هل يتم انتخابهم أم تعيينهم؟ من أين تأتي الميزانية التي تحت تصرفهم؟ ما هي صلاحياتهم ومسؤولياتهم؟ من هم الذين بمقدورهم المشاركة في اتخاذ القرارات؟ هل للمواطنين كلمة في هذه القرارات؟

ومن المؤكد أن خلق الديمقراطية المحلية ودعمها يستغرق وقتاً وجهداً، وأن بلداناً ومناطق ومجتمعات مختلفة ستجد طرقاً مختلفة للقيام بذلك، ولكن هنالك بعض المبادئ الحيوية والعامة التي يمكن أن تساعد في كل المناطق على إنجاز هياكل الديمقراطية المحلية.

إن تمثيل المواطنين، على سبيل المثال، يمكن أن يتحقق من خلال انتخابات منتظمة ونظام انتخابي عادل. كما يتم ضمان مشاركتهم من خلال حرية تشكيل الجمعيات وحرية التعبير ووصول الجمهور إلى المعلومات وإلى آليات محددة للتشاور. علاوة على ذلك، من المهم أن تعمل السلطات المحلية بكفاءة؛ يمكن للتخطيط والميزانيات المحددة والآمنة، وتدريبات منتظمة للمسؤولين، وتعريفات قانونية واضحة للأدوار والصلاحيات، والتنسيق الوثيق بين السلطات المحلية من جهة وبين الحكومة الوطنية أو الإقليمية من جهة أخرى أن تساعد على تحقيق مثل هذه الكفاءة.

الديمقراطية المحلية والتنظيم الذاتي

حتى مؤسسات الحكومة المحلية ملزمة وبصورة حازمة بمبادئ التمثيل، ولن تكون المشاركة والكفاءة قادرة على شمول تعدد احتياجات وتطلعات وأفكار المواطنين نحو مجتمع أفضل. بالتالي ستواجههم صعوبات عند القيام بأعمالهم بشكل جيد دون المبادرات الخاصة للمواطنين، وتنظيمهم الذاتي. يمكن للتنظيم الذاتي أن يتخذ أشكالاً عدة وأن يكون له العديد من الأهداف المحددة. فالجمعيات مهمة جداً هنا، إذ يمكنها أن تساعد على تحقيق وحماية العديد من مصالح وأهداف المواطنين المختلفة، بما فيها: التعليم، الخدمات، التخطيط والتنمية، الرياضة، الفنون والثقافة، الصحة والرفاهية، المعلومات، دعم المحتاجين، وحماية البيئة. يمكن لجمعية ما أن تُبرز أية مصلحة إجتماعية تقريباً وأن تمكّن المواطنين من تنظيم أنفسهم لهذا الغرض. لنفترض، على سبيل المثال، أنك تريد إنشاء مسبح في بلدتك ولكن السلطات المحلية لا تدعم هذه الخطة. يمكنك التخلي عنها، أو إنشاء جمعية تُمّكنك من العثور على المزيد من الناس الذين سيشاطرونك إهتمامك. جمعية تمثل هذه المجموعة هي في وضع أفضل بكثير من أفراد لمفاتحة السلطات وإيجاد حل للمشكلة. وينطبق الأمر نفسه على العديد من الأمثلة الأخرى: هل تريد أن تبدأ أعمالاً تجارية خاصة بك، وتعوزك المشورة القانونية والاقتصادية؟ يمكن لجمعية أن تساعد على جمع الموارد وتقديم المشورة للمواطنين.

عدا عن الجمعيات، فإن التنظيم الذاتي أيضاً مهم جداً في المدارس، والجامعات، والمستشفيات، والأحزاب السياسية، والنقابات العمالية وما إلى ذلك، ويمكن في كل من هذه المؤسسات الاجتماعية أن يطبَّق التنظيم الذاتي والتمثيل من أسفل إلى أعلى من خلال المجالس وعبر التنصيبات. في المدارس، على سبيل المثال، فإن تشكيل مجالس التلاميذ والآباء المنتخَبين هو وسيلة جيدة لإعطاء الآباء والتلاميذ صوتاً حول ما يحدث في مدارسهم. علاوة على ذلك، يمكن للممثلين المنتخَبين من جميع مدارس منطقة معينة انتخاب ممثلين عنهم للمجالس المحلية أو الوطنية للتلاميذ والآباء، ويمكن لهذه بدورها توصيل مصالحهم إلى السلطات المسؤولة.

ومع ذلك، هناك حاجة ليس فقط لمنظمات جديدة، بل من المهم أيضاً إيلاء اهتمام للهياكل الداخلية للتمثيل والمشاركة والتنصيب ضمن الهيئات القائمة. إذا كان لحزب سياسي، على سبيل المثال، لجنة مركزية واحدة للبلد كله، تتخذ وحدها كافة القرارات المتعلقة بسياسات الحزب وتسمية المرشحين للانتخابات البرلمانية، لن يبقى للناخبين ولمؤيدي الحزب إلا القليل جداً من السلطة في هذه القرارات، هذا إن وُجِدت لهم السلطة أصلاً. يحتاج الحزب، لتغيير هذا، إلى تعديل الآليات الداخلية للانتخابات والتنصيبات. هناك طرق مختلفة للقيام بذلك. فالفروع المحلية للحزب، على سبيل المثال، قد تختار المندوبين للجنة الوطنية و/أو تحصل على صوت في تسمية المرشحين لعضوية البرلمان. بهذه الطريقة (وغيرها) يتم تمثيل أعضاء ومؤيدي الحزب في هيكل الحزب وفي عملية صنع القرار.

توفر المواد الموجودة في هذا الملف أمثلة مفيدة وملموسة ودراسات وأفكاراً عن كيفية عمل المؤسسات والمنظمات الديمقراطية المحلية في أماكن مختلفة – بما في ذلك الأحزاب السياسية والنقابات العمالية ومجالس المدارس والجامعات والسلطات البلدية.

الكثير من الأمثلة هي من ألمانيا، حيث توجد بنى متطورة للتنظيم الذاتي في مختلف الميادين وعلى مختلف المستويات.

ولكن يجدر الذكر أن أمثلة بنى التنظيم الذاتي التي تساق هنا لم تكن هبة من الحاكمين إلى الشعب، لا في ألمانيا ولا في دول أخرى، بقدر أن الشعوب أحرزتها في إطار نضالي. كثيراً ما جرت تلك النضالات أثناء فترات التحول الاجتماعي مثل الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، عندما بدأت تنشط شريحة العمال على وجه الخصوص. مثال آخر هو ستينيات القرن العشرين، عندما اتحدت النساء والطلبة والمثليون وغيرهم في أوروبا ليشكلوا حركات اجتماعية وضعت بنى السلطة والبنى الاجتماعية السائدة موضع التساؤل. كان لا بد آنذاك ولا بد اليوم من النضال من أجل التنظيم الذاتي والمشاركة كما يجب ممارستهما والدفاع عنهما كي يُكتب لهما البقاء. وهو أمر غير بديهي حتى في أوروبا، بل إن التنظيم الذاتي والمشاركة مهددتان هناك أيضاً منذ بضع سنوات، بحجة أنهما تتعارضان مع طلب «الاحترافية» و«الكفاءة».

تتيح التحولات الاجتماعية الراهنة في سوريا فرصة للتغلب على البنى المركزية الغابرة خطوة بعد خطوة، ولفتح وتجريب مجالات ملموسة لإشراك المواطنين في إنشاء كيان اجتماعي ديمقراطي. تتطلب بعض هذه التغييرات بنى إدارية متينة هي غير متوفرة حالياً. ولكن بعض التغييرات الأخرى ممكنة اليوم، فلا يستطيع أحد مثلاً منع ممثلي الأحزاب السياسية من أن يُنشئوا بنى تشاركية ديمقراطية داخل تنظيماتهم. نود أن نساهم في هذا التطور عبر المواد التي نوفرها هنا، علماً أن المرجو هو تطويرها وتوسعتها بشكل منتظم وفقاً لاهتمامات واحتياجات النشطاء السوريين.