من رعية إلى مواطن: نصوص حول الديمقراطية والمشاركة المحلية

٥ الجمعيات

الجمعية هي تجمّع طوعي لمجموعة من الأفراد من أجل متابعة أهداف أو مصالح مشتركة أغلبها طويلة الأمد. يعتبر حق تأسيس الجمعيات من صميم حق التجمّع. تعود بدايات الجمعيات في أوروبا إلى القرن الثامن عشر، وكان الأمر الجديد بل الثوري الذي حققته هذه الروابط حينذاك هو أن أشخاصاً من مختلف الطبقات (رجال دين، نبلاء، مواطنون وفلاحون أحرار) اجتمعوا في الجمعيات لمناقشة قضايا عصرهم، علماً بأن التواصل بينهم كاد يكون معدوماً قبل ذلك. ازدادت حركة تأسيس الجمعيات أكثر فأكثر اعتباراً من منتصف القرن التاسع عشر، نتيجة عصر التصنيع الذي ترافق مع توافد متزايد من البشر إلى المدن. تولت الكثير من الجمعيات مهام لم تقم بها الدولة آنذاك، حيث كانت تنشط بشكل خاص في مجال العمل الخيري، إذ أن الكثير من العمال كانوا يعيشون في ظروف غير مستقرة اجتماعياً، واهتمت جمعيات أخرى بتنظيم أنشطة ثقافية وترفيهية. أما النشاط السياسي الحر فكان محظوراً على الجمعيات لفترة طويلة، وتعرضت الجمعيات، خاصةً العمّالية منها، لرقابة شديدة من الدولة.

مازالت الشكوك حتى يومنا هذا ترتاب أنظمة الحكم الاستبدادية في أنحاء العالم عندما يقوم أفراد بتأسيس الجمعيات، ذلك لأن الجمعية تعد، انطلاقاً من فكرتها الأساسية، فضاءً «مستقلاً عن الدولة» أو على الأقل «بعيداً عن نفوذ الدولة». يؤسس المواطنون الجمعيات لينظّموا أمورهم بأنفسهم دون تدخل من الدولة. وسنستعرض في ما يلي نموذجاً لقانون جمعيات ليبرالي، كما تُشرح إمكانيات لهيكلة الجمعيات.

الجمعيات غير المسجلة، والمسجلة، والجمعيات ذات المنفعة العامة

في دول كثيرة توجد جمعيات مسجلة وغير مسجلة على حد سواء. من حيث المبدأ ينبغي قدر الإمكان تسهيل إمكانية تأسيس المواطنين لجمعيات لينشطوا من خلالها، لذلك يُفترض أن تكون الشروط الشكلية اللازمة لتأسيس جمعية قليلة، ولا ينبغي أن يكون التسجيل ملزماً. فقد يعد بقاء جمعية غير مسجلة أمراً مجدياً إذا كان من المتوقع ألا تستمر إلا لفترة محدودة. فعلى سبيل المثال، إذا قام أفراد بتأسيس جمعية من أجل منع بناء طريق سريع للسيارات في حيّهم السكني أو في قريتهم، يمكن حل الجمعية بعد تحقيق الهدف. كما أنه من المنطقي أيضاً تأسيس جمعية غير مسجلة إذا كان من غير المتوقع أن تكون للجمعية إيرادات كثيرة أو أنها ستبرم عقوداً. فيمكن لمجموعة من الناشطين مثلاً تأسيس جمعية غير مسجلة، لمنح اجتماعاتهم حماية قانونية إضافية بحكم قانون الجمعيات، وليكون لهم ممثلون قانونيون محددون.

يتطلب التسجيل الرسمي لدى الدولة بذل جهود إضافية دائماً، ولا تعتبر هذه الجهود مبررة من وجهة نظر أعضاء الجمعية، إلا إذا حصلوا مقابل ذلك على حماية أفضل أو فائدة إضافية. فإذا كان تسجيل الجمعية يحمي الأعضاء من تحملهم المسؤولية المالية في حال تعرضت الجمعية لخسائر مالية، فإن التسجيل أمر مُجدٍ من وجهة نظرهم. كما أن التسجيل ذو نفع إذا كانت الجمعية تريد الحصول على مال من مؤسسات حكومية أو غير حكومية داخل البلد أو خارجه، فالمؤسسات المانحة لا تعترف عادةً إلا بالجمعيات المسجلة.

شكل خاص من أشكال الجمعيات المسجلة هو الجمعية ذات المنفعة العامة. في ألمانيا مثلاً يتم إعفاء الجمعيات غير الهادفة للربح والتي تعمل لأهداف ذات منفعة عامة أو أهداف خيرية من دفع الضرائب. فعلى سبيل المثال تُصنّف جمعية تهدف للمصالحة بين العرب والأكراد في المناطق المعرّبة سابقاً بفئة الجمعيات «ذات المنفعة العامة»، بينما تُمنح جمعية أخرى تقوم بطبخ الحساء للاجئي الحروب صفة الخيرية. عن طريق الإعفاء من دفع الضرائب تسمح الدولة للمواطن أن يقرر بنفسه كيف تُصرف أموال من أجل المنفعة العامة. تشبه المؤسسات الخيرية في البلدان الأنجلوسكسونية الجمعيات ذات المنفعة العامة. أما المؤسسات الخيرية العريقة فتتمركز في دول مثل الولايات المتحدة المعروف بضعف دور الدولة في المجال الاجتماعي الذي تتركه الدولة غالباً للمبادرات الخاصة.

من المهم ألا يكون ترخيص الجمعيات من صلاحيات السلطات التنفيذية، بل التشريعية، ولا يجوز أن يكون لوزارة الداخلية أو الشرطة أو لأجهزة أمنية أخرى كلمة لدى تسجيل الجمعيات. لقد بينت التجربة أن هذه المؤسسات التابعة للدولة لا ترحّب كثيراً بوجود مواطنين ناشطين. وبالتالي فإن قيام التشريعية بتسجيل الجمعيات يحمي المواطن من قيود محتملة قد تفرضها السلطات التنفيذية. بالإضافة إلى ذلك، فإن ترخيص الجمعيات يجب أن يكون عملية شكلية وغير سياسية. معنى ذلك أن المعيار الوحيد المقبول للتسجيل هو توافق النظام الأساسي للجمعية التي تطلب التسجيل مع قانون الجمعيات، وليس موافقة الطبقة الحاكمة على أهداف الجمعية.

النظام الأساسي

يجب على الجمعيات المسجلة وغير المسجلة على حد سواء تلبية شروط معينة ينص عليها قانون الجمعيات لكل دولة، والذي عادةً ما يفرض إجراء اجتماع تأسيسي يقرّ نظاماً أساسياً للجمعية. ولأجل تسهيل تأسيس الجمعيات ونشاط المواطنين المرتبط بذلك، يُستحسن أن يكون الحد الأدنى المطلوب لعدد الأعضاء صغيراً قدر الإمكان. وللدولة مصلحة أيضاً في أن يكون هناك نشاط حيوي للجمعيات، لأن نشاطها يخفف من أعباء الدولة.

يستطيع كل شخص أن يصبح عضواً في جمعية إذا كان يدعم أهدافها ووافق على نظامها الأساسي. تقرر الجمعية بنفسها قبول أو رفض انتساب الأشخاص إليها. ولا يمكن إلغاء عضوية شخص إلا إذا انتهك واجباته المنصوص عليها في النظام الأساسي (كعدم دفع الاشتراكات) أو ألحق الضرر بالجمعية. وتقرر الجمعية بنفسها أيضاً في شأن إقصاء أي عضو، وذلك على أساس المبادئ التي ينص عليها النظام الأساسي.

بغض النظر عن كونها مسجلة أم لا، يجب أن يتضح من نظام الجمعية الأساسي ما الغرض من تأسيسها. يجب ضمان حرية اختيار الغرض، فيمكن لجمعية أن تتابع أغراضاً اجتماعية (مثل دعم المحتاجين عن طريق التبرع بالألبسة أو الأغذية)، أو سياسية (مثل دعم حقوق المرأة أو الطفل). كما يمكن لجمعية أن يكون غرضها ترفيهياً، حيث يجتمع فيها مربو الحمام أو النحل، أو لاعبو الورق، أو مشجعو كرة القدم، أي باختصار كل من يتشاركون في هواية ما ويريدون أن يمارسوها سويةً. يمكن لجمعية أن تسعى لأهداف اقتصادية أو أن تخدم المنفعة العامة، فالقرار في ذلك يعود حصراً لأعضاء الجمعية أو لمؤسسيها منهم.

على الجمعيات المسجلة، كما سبق الذكر، تلبية بعض الشروط الشكلية التي تتعدى نطاق شروط الجمعيات غير المسجلة. فيتوجب عليها حسب القانون الألماني مثلاً تحديد كيفية الانتساب إليها في نظامها الأساسي، وإذا كانت العضوية تتطلب دفع اشتراكات وكيف يتم تشكيل مجلس إدارة الجمعية، وكيفية انعقاد الجمعية العامة للأعضاء، وطريقة توثيق القرارات (محاضر وما شابه). وقد تتباين تفاصيل هذه الأنظمة بشدة، فيمكن لجمعية أن تقرر على سبيل المثال بأن النصاب القانوني لجمعيتها العامة لا يعد مكتملاً إلا بحضور جميع الأعضاء أو أن تقرر اكتماله بحضور عضو واحد فقط.

الجمعية العامة

تعتبر الجمعية العامة للأعضاء الهيئة العليا لاتخاذ القرار لكل جمعية، وهي تُعقد بشكل دوري، عادةً مرة واحدة في السنة على الأقل، ويدعو إليها مجلس إدارة الجمعية. وعموماً يحق لعدد معين من الأعضاء أيضاً الدعوة لعقد اجتماع الجمعية العامة في جال رأوا ضرورة ذلك، ويختلف العدد المطلوب لذلك من جمعية إلى أخرى. تنتخب الجمعية العامة الإدارة وتقر وتعدل النظام الأساسي وتحل الجمعية. تقرر الجمعية العامة بأغلبية الأصوات البسيطة عادةً، أما في القضايا البالغة الأهمية مثل تغيير النظام الأساسي أو حل الجمعية أو تغيير غرض الجمعية، فمن المفيد فرض نسب أغلبية اُخرى (ثلثي الأصوات أو الإجماع) إما بحكم النظام الأساسي أو بحكم القانون. المهم في الأمر أنه لا يجوز حل الجمعية إلا من قبل أعضائها وفقاً للنظام الأساسي.

مجلس الإدارة

يتولى مجلس الإدارة تمثيل الجمعية خارجها، كإبرام العقود بجميع أنواعها مثلاً. يتألف مجلس الإدارة عادةً من شخصين على الأقل، هما الرئيس وأمين الصندوق. تسيّر الإدارة الأعمال الجارية للجمعية مع التزامها بقرارات الجمعية العامة التي تُبلّغها بجميع القضايا التي تهم الجمعية. تحدَّد في معظم الأنظمة الأساسية للجمعيات الفترات المنتظمة التي يجب على الإدارة الالتزام بها لتقديم تقرير حول استخدام أموال الجمعية، يتضمن الإيصالات وتقريراً عن عمل الجمعية الفعلي. في حالات كثيرة تعمل الإدارة طوعياً، بمعنى أن أعضاءها لا يحصلون على مال مقابل عملهم.

التمويل

تمول الجمعيات نفسها عن طريق اشتراكات الأعضاء والتبرعات. كما يمكنها تقديم طلب الحصول على أموال إضافية من مؤسسات مستقلة أو تابعة للدولة. وحدهم الأعضاء يقررون في تقديم طلبات التمويل. المهم في هذا الأمر هو حصر صلاحية التحقق من أن الجمعية تعمل وفقاً لنظامها الأساسي ولم تنفق الأموال لغير الأغراض المنصوص عليها فيه بدائرة المالية المسؤولة فقط. إذ ليس هناك ما يدعو لإشراك مؤسسات عامة أخرى في عملية التدقيق هذه.

تنزيل

٨٤٩ كيلوبايت PDF